إسرائيل- كيف أصبحت عبئًا أخلاقيًا يهدد الحضارة الغربية؟

المؤلف: محمد العودات09.22.2025
إسرائيل- كيف أصبحت عبئًا أخلاقيًا يهدد الحضارة الغربية؟

في مقال سابق نشرته على الجزيرة نت، تحت عنوان "عقدة الذنب والتفوق النوعي.. كيف نفسر هذا الدعم الغربي الهائل لإسرائيل؟"، تطرقت إلى الأسباب الكامنة وراء هذا الدعم المستمر، وكان من بين أهم تلك الدوافع رغبة الغرب في أن تكون إسرائيل رأس حربة لمشروعه الحضاري في الشرق الأوسط. ولكن، ومع مرور الوقت، تحولت هذه الدولة إلى عبء جسيم يثقل كاهل الحضارة الغربية، ويعيق تحقيق مشروعها الحضاري والقيمي الذي كانت تسعى جاهدة لتصديره إلى المنطقة العربية، بهدف تحقيق الانسجام والاندماج بين أصالة الشرق وحداثة الغرب، بما يخدم مصالح البشرية جمعاء ويحقق الازدهار المنشود من هذا التلاقح الحضاري.

ولكن، للأسف، حدث عكس ذلك تمامًا، إذ تحولت إسرائيل من قوة دافعة للمشروع الغربي إلى كيان يفتقر إلى القيم الأخلاقية، ويفصل بين الشرق والغرب، ويحول دون تزاوج الحضارات الذي يصب في مصلحة الإنسانية ويسرع وتيرة تقدمها.

إن الحضارة الإسلامية، بما تملكه من ثروة أخلاقية ومعرفية عريقة، تمتلك الاستعداد الفطري لاحتضان الحضارة الغربية المتنامية وتطويرها والبناء عليها. فالحضارة الإسلامية، بفلسفتها القيمة في المجالات السياسية والاقتصادية والأخلاقية، هي الأقرب إلى قيم الحضارة الغربية.

لقد قدمت الحضارة الإسلامية في الماضي القريب إسهامات جليلة في إثراء العلوم الإنسانية ونقلها إلى الحضارة الغربية. ولولا المشروع الإسرائيلي، لوجدت الحضارة الغربية الحديثة – التي حوّلت القيم الشرقية إلى نظم – في الحضن الشرقي البيئة الدافئة التي تنمو وتزدهر فيها. إلا أن المشروع الإسرائيلي، بأيديولوجيته الدينية المتطرفة القائمة على الكراهية ورفض الآخر ومعاداة كل جديد، أقام سدًا منيعًا من العداء وحاجزًا نفسيًا بين الحضارتين الشرقية والغربية، ومنع تبادل المعارف وتلاقح الأفكار.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف تحولت إسرائيل إلى عبء أخلاقي ينوء بالحضارة الغربية؟

لقد سعت الدول الغربية، المثقلة بعقدة الذنب تجاه اليهود لما عانوه من اضطهاد تاريخي، إلى دعم هذا الكيان وتزويده بكل أسباب القوة، الأمر الذي حول إسرائيل إلى آلة قمع طائشة ترتكب أبشع الجرائم، حتى وصلت إلى حد الإبادة الجماعية في حرب غزة الأخيرة، وهي جرائم يتم تجاهلها والتعامل معها بلامبالاة.

فالغرب، بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح شديد الحساسية تجاه أي عمل من أعمال الإبادة الجماعية، وقد رأينا كيف تحرك بقوة في حرب البلقان ضد الإبادة الجماعية التي وقعت هناك في نهاية القرن الماضي. لكن الأمر يختلف تمامًا عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، إذ تبدأ عندها الآلة الإعلامية الغربية في التبرير، واعتبار ما تقوم به إسرائيل مجرد ممارسات ضرورية في مواجهة ما يسمى "الإرهاب الإسلامي".

إن هذا السلوك التبريري، الذي لم يتجاوز في أحسن الأحوال التبرؤ الخجول من تلك الممارسات، قد لطخ سمعة الحضارة الغربية في بعدها الأخلاقي، وجعل شعوب الشرق تنظر إليها بعين الريبة والشك، وتشكك في صدق توجهاتها وفي الصورة المشرقة التي تحاول رسمها عن احترامها لحقوق الإنسان، وحقوق المرأة والطفل، والشعوب الفقيرة والمستضعفة.

عندما أنتجت الحضارة الغربية العلوم السياسية المتعلقة بالتداول السلمي للسلطة والديمقراطية والاحتكام إلى صناديق الاقتراع في اختيار القيادات وإدارة الدول، كانت هذه الحضارة تدعم الأنظمة الديمقراطية التي تنبثق عبر صناديق الاقتراع ومن رحم الإرادة الشعبية، وتضيّق الخناق على الأنظمة الشمولية المستبدة، إلا أن الوضع في العالم العربي كان مختلفًا تمامًا.

فالحضارة الغربية تعلم تمام العلم أن الكيان الصهيوني غير مرغوب فيه في المنطقة، وأن جميع شعوب الدول العربية ترفض التعامل معه، وترفض وجوده الذي قام على اغتصاب الأرض وقهر الشعب الفلسطيني الأصلي، وأن نتيجة أي عملية سياسية ديمقراطية ستفرز قادة يعادون دولة إسرائيل.

لذلك، كانت الدول الغربية تغض الطرف عن الأنظمة المستبدة، على اعتبار أن البديل هو قيادات ديمقراطية تعادي دولة إسرائيل، مما جعلها حضارة تتبنى معايير مزدوجة في دعم الديمقراطية.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن بعض الدول الغربية قامت بأعمال معادية لمحاولات الشعوب العربية في البحث عن الديمقراطية خلال ثورات الربيع العربي. فقد رأينا كيف صمتت – بضغط إسرائيلي – عن المجازر التي ارتكبها نظام الأسد في سوريا. فقد كانت إسرائيل ترى أن البديل عن نظام الأسد المتعايش مع الكيان الصهيوني، سيكون نظامًا ديمقراطيًا يعاديها، فتم غض الطرف عن الجرائم في سوريا، وقطع خطوط الإمداد عن كل من يعارض هذا النظام المستبد.

إن الضرر الأكبر والعبء الأكبر الذي ألحقته إسرائيل بالحضارة الغربية هو الدعم اللامحدود الذي قدمته لها أمريكا – وهي رأس الحضارة الغربية – في حربها الأخيرة الظالمة على غزة، والتي ارتكبت فيها جرائم إبادة جماعية يندى لها الجبين.

لقد دفع هذا السلوك دول العالم المتحضر (من خارج الغرب) إلى الوقوف في وجه هذا التحيز الصارخ، فقامت جنوب أفريقيا بتحريك دعوى قضائية في المحكمة الجنائية الدولية ضد الكيان الصهيوني وضد قادته العسكريين والسياسيين، الذين طالب بعضهم باستخدام القنبلة النووية ضد الشعب الفلسطيني في غزة.

ولم تكتفِ أمريكا بالامتناع عن القيام بأي عمل إيجابي لوقف تلك الإبادة الجماعية، بل وصل الأمر إلى أنها سنّت قانونًا يفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، أقره مجلس النواب الأمريكي بعد إصدار مذكرات اعتقال ضد نتنياهو وغالانت. وبذلك، أصبحت أمريكا تعمل على تفكيك مؤسسات القانون الدولي التي أنشأتها الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية للحفاظ على السلم والاستقرار العالميين.

وهكذا، وبسبب انحياز الحضارة الغربية لإسرائيل، تحولت هذه الحضارة من مؤسِسة للقانون الدولي إلى ساعية لتفكيك مؤسساته، وتعريض الأمن والسلم العالميين للخطر؛ من أجل حماية إسرائيل وقادة جرائم الإبادة الجماعية فيها.

لقد ناضل الغرب ومثقفوه بعد الثورة الفرنسية من أجل تغليب العقل على الروايات الدينية المتطرفة المحمّلة بالخرافات، لكن الحضارة الغربية اليوم تتخلى عن العقل السليم ومفاهيم العمل السياسي المثمر القائم على المصلحة واحترام الإنسان وحقوقه، من أجل دعم الرواية السياسية الدينية اليهودية المحمّلة بالخرافة والكراهية والاستعلاء.

إن الحضارة الغربية اليوم تمارس تناقضًا صارخًا، فهي تقدم الدعم لليمين الديني المتطرف في دولة إسرائيل، بينما تناضل في بلادها من أجل منع صعود أي تيار ديني يعود بالحضارة الغربية إلى الوراء، ويعيدها إلى العصور الوسطى المظلمة.

بهذا التناقض، تقوض الحضارة الغربية نفسها، وتعمل بشكل حثيث على تفكيك ما بنته من نظرية سياسية متماسكة ساهمت في بناء حالة من النهضة والتقدم في العديد من الدول التي تبنتها.

إن الحضارة الغربية تفكك نفسها وتدعم كل ما يناقض مبادئها من أجل دعم دولة إسرائيل التي تسير عكس اتجاه الحضارة الغربية والتطور الإنساني، وتضطر الحضارة الغربية للتضحية بنفسها من أجل إسرائيل.

اليوم، تحولت إسرائيل إلى عبء أخلاقي يهدد مصداقية الحضارة الغربية، كما تحولت إلى عبء يهدد السلم العالمي والأمن المجتمعي. فما تولدت وتناسلت الجماعات المتطرفة في المنطقة إلا نتيجة لهذا التناقض الصارخ في الحضارة الغربية بين التطبيق الداخلي والتعامل الخارجي، وبين جمال النظرية الغربية وواقعها المرير في المنطقة العربية.

لقد دفع هذا التناقض الشعوب العربية إلى البحث عن الخلاص من خلال دعم المشاريع الأخرى التي تحاول أن تكون بديلًا عن المشروع الحضاري الغربي، فنشأ المشروع الإيراني الطائفي الذي أشعل الحرائق، وأشاع الفوضى وعدم الاستقرار في جميع دول المنطقة.

كما أسهم هذا التناقض في جعل النخب العربية تتشكك في غايات الحضارة الغربية ومدى ملاءمتها للمنطقة، لما رأته من افتقادها للمصداقية في التطبيق خارج أرضها، واستخدامها قيم الديمقراطية والحرية كأداة للغزو الثقافي، أو كحصان طروادة الذي يتيح لها التسلل إلى المنطقة، فيما تتنكر لتلك القيم عندما تتعارض مع مصالح إسرائيل.

كان بإمكان الحضارة الغربية ألا تتورط في محاولة تصدير منتجها الحضاري إلى الأمم الأخرى، والاكتفاء بالتمتع بما أنتجته من علوم إنسانية والاستمرار في التفوق من خلالها، ولكان هذا أقل ضررًا من مصابها، إذ خسرت اليوم صورتها المشرقة التي أرادت رسمها في أذهان الشعوب الأخرى.

أراد الغرب أن تكون إسرائيل طليعة مشروعه الحضاري والقيمي في منطقة الشرق الأوسط، ولكن سرعان ما تحولت إسرائيل من حاملة للحضارة الغربية إلى بؤرة للكراهية والبغضاء تثير الفتن والشكوك بين الحضارات، وتنشر في المنطقة والعالم الاضطراب وعدم الاستقرار.

يمكن للحضارة الغربية أن تصحح هذا الخطأ التاريخي، فترفع يدها عن هذا الكيان الذي أصبح عبئًا ثقيلًا عليها، وتشارك بفعالية في حل هذه الأزمة التي قاربت قرنًا من الزمان، بما يعيد الحقوق لأصحابها الأصليين، وتمتد يدها إلى الحضارة الإسلامية لبناء مستقبل أفضل للإنسانية جمعاء، وتفسح المجال أمام الشعوب العربية للمساهمة في البناء والتقدم والازدهار، بما يخدم الإنسانية جمعاء.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة